تقنية

طاقة الرياح

في قلب مضيق تايوان المتقلب، حيث تتلاقى التيارات البحرية العنيفة مع الرياح الموسمية العاتية، تخوض تايوان مغامرة استراتيجية ضخمة تهدف إلى بناء صناعة متقدمة لطاقة الرياح البحرية. هذا المشروع الطموح لا يقتصر فقط على كونه خطوة نحو الاستدامة البيئية، بل يمثل ضرورة وطنية لتأمين مصادر طاقة مستقلة ومستقرة، خاصة مع النمو الهائل في الطلب على الكهرباء من مصانع أشباه الموصلات العملاقة، التي تشكل العمود الفقري لاقتصاد الجزيرة وتعتمد عليها سلاسل التوريد العالمية.

 طاقة الرياح
طاقة الرياح

يُعد هذا المسعى واحدًا من أعقد مشاريع الطاقة المتجددة في العالم، نظرًا للتحديات الطبيعية القاسية التي تفرضها طبيعة المنطقة. في عرض البحر، وتحديدًا على متن سفينة “أورينت أدفنتشرر”، يواجه الطاقم الدولي المشارك في تركيب التوربينات البحرية اختبارات قاسية يومًا بعد يوم. فبين أمواج تتلاطم بعنف، ورياح تصل سرعتها إلى مستويات تعيق الحركة الدقيقة المطلوبة لمثل هذه الأعمال الهندسية، يصبح الحفاظ على جدول زمني دقيق أمرًا شبه مستحيل.

واحدة من أبرز العقبات التي يواجهها الفريق الهندسي هي قصر فترة العمل الفعلي في كل نوبة بحرية، حيث تؤدي الظروف الجوية القاسية إلى تقليص ساعات العمل إلى ثلاث أو أربع فقط خلال كل 12 ساعة. الأمر لا يتعلق فقط بالإنتاجية، بل أيضًا بالسلامة. فالهياكل الضخمة التي تُثبت في قاع البحر تحتاج إلى دقة متناهية واستقرار بيئي للحظة التركيب، وهي عوامل نادرة الحدوث في بيئة بحرية كبيئة مضيق تايوان.

القبطان البريطاني ريتشارد بوجورست، الذي يقود السفينة، وصف التحديات اليومية بقوله إن العمل في هذه الظروف يشبه “العمل داخل غرفة مضطربة لا يمكن التنبؤ بها”، في إشارة إلى مدى صعوبة التنبؤ بالتغيرات المفاجئة في الطقس والحركة البحرية، والتي تفرض على الطاقم إعادة تقييم خطط العمل باستمرار.

على الرغم من هذه المصاعب، لا تتراجع تايوان عن مشروعها الطموح، بل تضاعف التزاماتها في سبيل تحقيق هدفها المتمثل في إنتاج طاقة نظيفة ومحلية. فالاعتماد الحالي على واردات الطاقة، وخصوصًا الغاز الطبيعي والفحم، يجعل الاقتصاد التايواني عرضة للتقلبات الجيوسياسية وسلاسل الإمداد غير المستقرة. ومع تصاعد التوترات في المنطقة، يصبح تطوير مصادر محلية للطاقة أمرًا بالغ الأهمية ليس فقط للأمن الطاقي، بل أيضًا للسيادة الاقتصادية.

وبينما يشق الطاقم طريقه وسط الأمواج العاتية، تُبنى أعمدة الطاقة على أمل أن تحمل الرياح يومًا طاقة المستقبل. مشروع طاقة الرياح البحرية في تايوان هو أكثر من مجرد بنية تحتية للطاقة؛ إنه اختبار لقدرة دولة صغيرة على مجابهة الطبيعة والتكنولوجيا والجيوبوليتيكا، لتحقيق استقلالها في واحدة من أكثر المناطق توترًا في العالم.

أما القبطان الروماني رازفان سيربانيل

يُشير القبطان الروماني رازفان سيربانيل إلى أن انعدام الرؤية تحت الماء جعل من الصعب جدًا مسح قاع البحر، مؤكدًا أن “التوقيت والتخطيط هما كل شيء” في مثل هذه المهمات المعقدة.

الكابلات بين الرياح والتوتر السياسي

يشهد مضيق تايوان، أحد أكثر الممرات البحرية حساسية في العالم، سباقًا حيويًا تحت سطح البحر، يتمثل في صراع خفي حول كابلات بالغة الأهمية.

فالمضيق يضم نوعين من الكابلات الاستراتيجية: كابلات الاتصالات التي تربط تايوان بالعالم، وكابلات نقل الكهرباء القادمة من مزارع الرياح البحرية إلى المصانع، خصوصًا مصانع الرقائق.

لكن هذه الكابلات عرضة للتهديد، إذ تتعرض أحيانًا للتخريب، وسط اتهامات موجهة لسفن صينية بالوقوف وراء بعض الحوادث.

في فبراير الماضي، تعطلت خدمات الاتصال في جزيرة ماتسو بعد انقطاع أحد الكابلات، لتُعلن بكين لاحقًا عن تطوير أداة قادرة على قطع الكابلات البحرية، ما زاد منسوب التوتر في المنطقة.

رقائق العالم تعتمد على طاقة الرياح

صناعة التكنولوجيا العالمية، بما فيها الذكاء الاصطناعي، تعتمد بشكل كبير على الرقائق التايوانية، ما يجعل أمن الطاقة في تايوان قضية استراتيجية من الطراز الأول.

ففي عام 2024، استهلكت شركة TSMC وحدها كمية من الكهرباء تفوق ما تستهلكه دول صغيرة كآيسلندا.

ومع الارتفاع المتسارع في الطلب على تقنيات الذكاء الاصطناعي، يُتوقع أن يتضاعف استهلاك الطاقة في هذا القطاع إلى ثمانية أضعاف بحلول عام 2028.

في ظل اعتماد تايوان على استيراد 97% من احتياجاتها من الطاقة، كثّفت الحكومة جهودها لتطوير مزارع رياح بحرية، ونقل الكهرباء منها إلى البر الرئيسي عبر كابلات مدرعة ضخمة.

صناعة جديدة ووظائف براتب مضاعف

لم تقتصر الطفرة على توليد الطاقة، بل فتحت أيضًا أبواب صناعة جديدة وواعدة.

فصناعة كابلات الرياح باتت تمثل مسارًا مهنيًا مغريًا، بفضل الرواتب المجزية التي تصل إلى ضعف متوسط الأجور في القطاعات التقليدية.

وشهد القطاع إقبالًا متزايدًا من مهندسين كهربائيين ومدنيين وميكانيكيين، يتجهون للاستفادة من الفرص المتاحة.

كما أعلنت الحكومة عن افتتاح أول مصنع محلي للكابلات البحرية هذا العام، بعد أن تجاوزت صادرات هذا القطاع حاجز 5.7 مليار دولار في العام الماضي.

تحول جذري في سوق العمل التايوانية

من عالم الاتصالات إلى أعماق البحار، اختار المهندس وي تشون هونغ أن يسلك طريقًا غير تقليدي.

ففي الخمسين من عمره، وبعد سنوات من العمل في مجال راكد، التحق بسفينة متخصصة في مدّ الكابلات، وبدأ تدريبه على التقنيات الدقيقة المستخدمة في البحر.

بسرعة، ترقى إلى غرفة التحكم، حيث بات يشرف على إطلاق الكابلات في أعماق المحيط بدقة متناهية.

أما المهندس باس لو، فبعد تخرّجه بشهادة في الهندسة المدنية، اتجه إلى قطاع طاقة الرياح، ويقول: “رأيت مستقبلي هنا، بلا حدود”.

بينما يتولى مهندسون مثل يي تنغ شيا مهام تنسيق العمليات البحرية الدولية، ويسافرون إلى بلدان مثل اليونان لدعم مشاريع كابلات الرياح في الخارج.

ووفقًا لبيانات “GWEC Market Intelligence”، من المتوقع أن تصبح تايوان ثاني أكبر سوق لطاقة الرياح البحرية في آسيا بحلول عام 2030، مع خطط لتشييد عشرات المزارع الجديدة خلال العقد المقبل، مما يتطلب بنية تحتية متقدمة وقوى عاملة متخصصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى