الذكاء الاصطناعي

لم تعد أزمة الطاقة في مراكز البيانات مجرد قضية فنية داخلية يتداولها المهندسون والخبراء، بل أصبحت أحد أبرز التحديات العالمية في عصر الذكاء الاصطناعي المتسارع. فقد أدى التوسع الهائل في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، من النماذج اللغوية إلى تحليل البيانات الضخمة، إلى زيادة غير مسبوقة في الطلب على البنية التحتية الرقمية، وخاصة على الطاقة الكهربائية التي تغذي مراكز البيانات حول العالم.

تُظهر التقارير الحديثة، ومنها ما نشرته شركة لينوكس لحلول مراكز البيانات ، مدى التحول الجذري في متطلبات الطاقة لتشغيل مراكز البيانات المخصصة للذكاء الاصطناعي. إذ تتوقع الشركة أن يبلغ استهلاك رف واحد فقط مخصص لأنظمة الذكاء الاصطناعي نحو 1 ميغاواط بحلول عام 2030 . ولتوضيح هذه النقطة، فإن هذا المستوى من الاستهلاك كان في الماضي يُخصص لتشغيل منشأة كاملة ، وليس مجرد رف داخل مركز بيانات.
هذا الرقم يعكس ليس فقط النمو الكبير في حجم وقدرات الذكاء الاصطناعي، بل أيضًا التحدي الفعلي في توفير البنية التحتية المناسبة للطاقة والتبريد . فرفوف الذكاء الاصطناعي تتطلب كميات هائلة من الطاقة لتشغيل المعالجات المتقدمة ووحدات معالجة الرسوميات (GPUs)، إلى جانب أنظمة التبريد القادرة على التعامل مع درجات حرارة مرتفعة نتيجة هذا الاستهلاك العالي.
وفي المقابل، يوضح التقرير أن متوسط استهلاك الرفوف في مراكز البيانات التقليدية سيرتفع إلى ما بين 30 و50 كيلوواط بحلول العام نفسه، وهو ما يُعتبر بحد ذاته تطورًا ملحوظًا مقارنة بالأعوام الماضية. إلا أن المقارنة مع الرفوف المخصصة للذكاء الاصطناعي تكشف عن فارق هائل ، حيث يستهلك رف واحد خاص بالذكاء الاصطناعي ما يعادل 20 إلى 30 ضعفًا من استهلاك نظيره في الاستخدامات العامة.
هذا التفاوت الكبير يضع ضغوطًا متزايدة على مزودي خدمات مراكز البيانات، ويفرض تحديات جديدة تتعلق بكفاءة الطاقة، وقدرات التبريد، وموثوقية الشبكات الكهربائية. كما أن لهذه الأزمة أبعادًا بيئية واقتصادية مهمة، إذ يثير هذا الاستهلاك الضخم للطاقة تساؤلات حول استدامة التطور الرقمي في ظل سعي العالم لتقليل الانبعاثات الكربونية والتحول نحو مصادر طاقة نظيفة.
لذلك، لم يعد بالإمكان التعامل مع قضايا الطاقة في مراكز البيانات على أنها مسألة تقنية فقط، بل باتت تتطلب رؤى استراتيجية وتعاونًا دوليًا بين شركات التكنولوجيا، والحكومات، ومزودي الطاقة، للعمل على حلول مبتكرة تضمن تلبية الطلب المتزايد دون الإضرار بالبيئة أو البنية التحتية للطاقة.
التبريد في صدارة المشهد
لم يعد التبريد مجرد عنصر تقني داعم في مراكز البيانات، بل أصبح من القضايا المحورية التي تحدد قدرة هذه المراكز على مواكبة التطورات الهائلة في تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة المتقدمة. يؤكد تيد بولفر، مدير حلول مراكز البيانات في شركة “لينوكس”، أن التبريد تطوّر من كونه جانبًا ثانويًا إلى “قضية مركزية”، تتطلب حلولًا مبتكرة وغير تقليدية.
ومن أبرز هذه الحلول الحديثة، تبرز تقنية التبريد السائل كبديل فعال للأنظمة المعتمدة على الهواء، والتي أصبحت غير قادرة على التعامل مع الكثافة الحرارية المتزايدة للأجهزة الحديثة. وقد كشفت تجارب شركة “مايكروسوفت” عن فعالية مذهلة لتقنية “الموائع الدقيقة”، حيث يتم تمرير سائل التبريد مباشرة عبر شرائح السيليكون. هذه التقنية أثبتت قدرتها على تقليل درجات حرارة وحدات معالجة الرسوميات (GPU) بنسبة تصل إلى 65%، مقارنة بالصفائح الباردة التقليدية، كما أنها أكثر كفاءة بثلاثة أضعاف في سحب الحرارة.
هذا التطور لا يعكس فقط أهمية الحفاظ على درجة حرارة منخفضة لتجنب الأعطال، بل يسلط الضوء على دور التبريد في تحسين الأداء العام للنظام وتقليل استهلاك الطاقة، وبالتالي تقليل البصمة الكربونية لمراكز البيانات.
بنية تحتية جديدة للطاقة
مع ارتفاع الطلب على الحوسبة عالية الأداء وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، أصبح من الضروري إعادة النظر في البنية التحتية للطاقة داخل مراكز البيانات. يشير تقرير “لينوكس” إلى أن هذا الاستهلاك الكبير يعيد تشكيل البنية التحتية جذريًا، حيث يتم التحول من استخدام التيار المتردد منخفض الجهد إلى التيار المستمر عالي الجهد (+/-400 فولت). هذه الخطوة تهدف إلى تقليل الفاقد في الطاقة، وتحقيق كفاءة أعلى في توزيع الكهرباء، بالإضافة إلى تقليص حجم الكابلات المستخدمة، مما يسهم في تقليل التكلفة وتحسين المساحة.
ورغم أن شركات التكنولوجيا العملاقة هي التي تتصدر هذا المجال حاليًا، إلا أن بولفر يرى أن هناك فرصًا واعدة أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة. فالطلب العالمي على مراكز البيانات يشهد نموًا هائلًا، في الوقت الذي تواجه فيه الصناعة اختناقات في سلاسل التوريد والتصنيع، مما يفتح المجال أمام الشركات المبتكرة لتقديم حلول مرنة ومستدامة.
كما يوضح التقرير أن الحرارة والطاقة لم تعودا من المسائل الثانوية أو الجوانب التشغيلية البحتة، بل أصبحتا في قلب التحديات التي تواجهها البنية الرقمية الحديثة، وتشكلان أحد الأعمدة الرئيسية لضمان استدامة هذه البنية على المدى الطويل.
ومع توقع استمرار نمو الطلب على الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، فإن شكل وحجم رفوف مراكز البيانات قد يكون العامل الحاسم الذي سيحدد مستقبلها بحلول نهاية هذا العقد، حيث ستُصمم الرفوف وفقًا لمتطلبات التبريد والكثافة الطاقية، وليس العكس.