تقنية

الذكاء الاصطناعي

يشهد قطاع الذكاء الاصطناعي في الصين طفرة نوعية جديدة تتميز بتسارع كبير في وتيرة تبني التكنولوجيا على المستوى التجاري، وهو ما يعكس توجهًا متزايدًا نحو استثمار هذه التقنيات بشكل عملي وواسع. ويأتي هذا التطور مدعومًا بانخفاض كبير وغير مسبوق في تكاليف تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، حيث أظهرت بيانات حديثة أن تكلفة التدريب انخفضت بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بما كانت عليه في عام 2024، بحسب تقرير صادر عن شركة الأبحاث العالمية “فروست آند سوليفان”.

 الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي

وأشار نيل وانغ، الشريك العالمي ورئيس قسم الصين الكبرى في الشركة، إلى أن كبار اللاعبين في هذا المجال مثل شركات “ديب سيك” و”علي بابا” و”بايدو” قاموا بتحويل تركيزهم من مجرد تحسين أداء النماذج إلى جعلها أكثر سهولة في الاستخدام وأقل تكلفة، مع بناء نظام بيئي متكامل يدعم هذه النماذج ويسرع من انتشارها في الأسواق. ويمثل هذا التحول في الاستراتيجية خطوة مهمة نحو دمج الذكاء الاصطناعي في الحياة اليومية والقطاعات المختلفة بشكل أكثر فعالية.

التقرير سلط الضوء أيضًا على أن تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي في الصين لم يعد مقتصرًا على الاستخدامات العامة أو البحثية فقط، بل بات يتجه بشكل متزايد نحو تطبيقات مخصصة وموجهة لكل قطاع من قطاعات الاقتصاد والخدمات. وهذا يعكس نضجًا أكبر في السوق الصينية حيث تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل التصنيع، الرعاية الصحية، التمويل، التجارة الإلكترونية، والتعليم، مما يعزز من القيمة العملية لهذه التقنيات.

تؤكد هذه الاتجاهات أن الصين تتجه بقوة نحو بناء منظومة ذكاء اصطناعي متكاملة وقادرة على دعم اقتصاد رقمي متقدم، مدعومًا بالبنية التحتية التقنية والابتكار المستمر. وهذا التطور لا يقتصر فقط على الشركات الكبرى، بل يشمل أيضًا دعم الشركات الناشئة ورواد الأعمال في المجال، ما يخلق بيئة محفزة للنمو والابتكار.

يعتبر الانخفاض الحاد في تكلفة تدريب النماذج الذكية عاملاً محوريًا في هذه الطفرة، حيث يفتح الباب أمام المزيد من المؤسسات والشركات الصغيرة والمتوسطة للاستفادة من هذه التكنولوجيا دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة. كما أن التركيز على تحسين سهولة الاستخدام يساهم في زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي من قبل المستخدمين النهائيين، سواء كانوا أفرادًا أو شركات.

في الوقت ذاته، فإن بناء نظام بيئي شامل يدعم الذكاء الاصطناعي يشمل تطوير البرمجيات، البنية التحتية السحابية، وتأهيل الكوادر البشرية، بالإضافة إلى تطوير السياسات والتنظيمات التي تسهل عملية الدمج والابتكار. وهذا يعكس توجهًا استراتيجيًا واضحًا من جانب السلطات الصينية لدعم هذه الصناعة الحيوية.

من ناحية أخرى، يعد هذا التحول في قطاع الذكاء الاصطناعي فرصة كبيرة للصين لتعزيز تنافسيتها على المستوى العالمي، حيث تسعى إلى أن تصبح من الدول الرائدة في تطوير وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. كما أن هذا يعكس رؤية وطنية شاملة تستهدف بناء اقتصاد رقمي متقدم يمكنه التعامل مع التحديات المستقبلية بمرونة وكفاءة.

في الختام، يمكن القول إن قطاع الذكاء الاصطناعي في الصين يشهد مرحلة نمو ديناميكية، مدفوعة بانخفاض تكاليف التدريب، وتطور في الاستراتيجيات التي تركز على سهولة الاستخدام والكفاءة، إلى جانب بناء نظام بيئي متكامل يدعم انتشار هذه التكنولوجيا في جميع القطاعات. هذا المزيج من العوامل يعزز من قدرة الصين على استغلال فرص الذكاء الاصطناعي بشكل أوسع وأعمق، مما يفتح آفاقًا جديدة للابتكار والنمو الاقتصادي في المستقبل القريب.

معدلات تبني الذكاء الاصطناعي في الصين

شهدت الصين ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر مختلف القطاعات، حيث وصلت نسبة تبني هذه التكنولوجيا الحديثة إلى مستويات متقدمة جدًا. ففي القطاع الحكومي، بلغ معدل التبني حوالي 95%، مما يعكس التوجه الكبير للحكومة الصينية نحو دمج الذكاء الاصطناعي في خدماتها وإداراتها لتعزيز الكفاءة وتحسين جودة الأداء. أما في القطاع المالي، فقد سجلت نسبة التبني 78%، حيث تستخدم المؤسسات المالية تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، وإدارة المخاطر، وتطوير حلول مصرفية متقدمة. أما في مجالي الاتصالات والرعاية الصحية، فقد تجاوز معدل التبني 60%، وهو ما يشير إلى نمو ملموس في استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة العملاء وتطوير خدمات صحية ذكية.

يأتي هذا الانتشار السريع والتبني الواسع مدعومًا بشكل رئيسي بموجة جديدة من النماذج مفتوحة المصدر. فقد أتاح هذا الاتجاه للمطورين والشركات الصغيرة إمكانية الوصول إلى الشيفرة المصدرية للبرمجيات وتعديلها بحرية، بالإضافة إلى إمكانية توزيعها بسهولة، مما ساهم في تضييق الفجوة التقنية بين الصين والولايات المتحدة، البلد الرائد في مجال الذكاء الاصطناعي.

ميزة السوق المحلية

تعتبر السوق الصينية واحدة من أكبر الأسواق التقنية في العالم، وهذا ما منح المطورين المحليين ميزة تنافسية كبيرة مقارنة بنظرائهم في الدول الغربية. أوضح وانغ، أحد الخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي، أن حجم السوق الضخم يسمح بتجربة وتطوير التقنيات بوتيرة أسرع بكثير، ما يساعد على الابتكار وتقديم حلول أكثر ملاءمة للسوق المحلية. مثال على ذلك، هو نموذج DeepSeek V3.1، الذي يتيح للمستخدمين التبديل بين وضعية “التفكير العميق” التي تتعامل مع المهام المعقدة بتأنٍ ودقة، ووضعية “الاستجابة السريعة” التي تعالج المهام البسيطة بطريقة أكثر مرونة وسرعة. هذا الابتكار يعكس قدرة المطورين الصينيين على تصميم تقنيات تلائم احتياجات السوق بشكل فعال.

هذا الدعم الداخلي القوي من السوق المحلية يعزز مكانة الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تركز الشركات على تطوير منتجات تلبي متطلبات المستخدمين الصينيين أولًا، قبل التوسع عالميًا، مما يجعل التجربة أكثر تفاعلًا وسرعة في التطوير.

التحديات والعقبات

رغم هذا الزخم الكبير والتقدم الملحوظ، تواجه الصين تحديات حقيقية على طريق تحقيق استقلالية تكنولوجية كاملة في مجال الذكاء الاصطناعي. واحدة من أبرز العقبات تتمثل في اعتماد العديد من الشركات الصينية على تقنيات أساسية أجنبية، خاصة أطر العمل المستخدمة في بناء نماذج الذكاء الاصطناعي والمترجمات التي تتيح فهم النصوص واللغات المختلفة. هذا الاعتماد الخارجي قد يشكل نقطة ضعف كبيرة، إذ يمكن أن يؤدي إلى محدودية في التحكم الكامل بالتكنولوجيا أو تعرضها لمخاطر في حال تغيرت السياسات الدولية أو القيود التقنية.

وبالتالي، لا يزال الطريق أمام الصين طويلًا لتعزيز قدراتها الذاتية في إنتاج الأدوات والتقنيات الأساسية للذكاء الاصطناعي، وهو ما يتطلب استثمارات ضخمة في البحث والتطوير، إلى جانب دعم الابتكار المحلي وتدريب الكوادر المتخصصة.

بهذا الشكل، تكون الصين قد قطعت شوطًا كبيرًا في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في مختلف القطاعات، مدعومة بسوق محلية ضخمة وابتكارات متقدمة. ومع ذلك، فإن تحقيق الاستقلال التكنولوجي الكامل لا يزال تحديًا قائمًا يتطلب جهودًا متواصلة للحفاظ على ريادة البلاد في هذا المجال الحيوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى