ديب سيك

أشارت شركة الذكاء الاصطناعي الصينية الناشئة “ديب سيك” (DeepSeek) مؤخرًا إلى خطوة هامة قد تُحدث تحوّلًا كبيرًا في قطاع الذكاء الاصطناعي داخل الصين، إذ ألمحت إلى أن البلاد على وشك امتلاك رقائق ذكاء اصطناعي متطورة، محلية الصنع، تنتمي إلى ما يُعرف بـ”الجيل القادم” من الرقائق.

وجاء هذا التلميح خلال فعالية الإعلان عن الإصدار الجديد من نموذجها اللغوي الكبير، “V3.1″، الذي تم إطلاقه يوم الخميس الماضي. وقد أوضحت الشركة أن هذا الإصدار يتميز بصيغة دقة جديدة تُعرف باسم UE8M0 FP8 ، وهي تقنية مصممة خصيصًا لتتوافق مع رقائق ذكاء اصطناعي محلية من الجيل المقبل، يُتوقع طرحها في المستقبل القريب.
ويعد هذا الإعلان مؤشراً على تطور كبير في قطاع تصنيع الرقائق داخل الصين، الذي يُعد من أكثر القطاعات التكنولوجية حيويةً واستراتيجية. ففي ظل التوترات الجيوسياسية والتحديات التقنية المتعلقة بالحصول على شرائح متطورة من الخارج، ولا سيما من شركات أمريكية كبرى مثل NVIDIA، تسعى الصين إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال الحيوي.
وتشير صيغة الدقة “UE8M0 FP8” إلى مستوى تقني متقدم يسمح بتحسين كفاءة النماذج اللغوية الكبيرة من حيث الأداء والسرعة مع تقليل استهلاك الطاقة، ما يجعلها مثالية للتشغيل على رقائق متطورة مخصصة لهذا الغرض. ويدلّ تصميم هذه الصيغة خصيصًا للرقائق الصينية على أن هناك تعاونًا وتنسيقًا فعليًا بين مطوّري البرمجيات ومصنّعي العتاد الصلب داخل الصين، وهو أمر بالغ الأهمية لتسريع وتيرة التطوير وتحقيق نتائج فعّالة في السوق.
ومن خلال هذه الخطوة، يبدو أن “ديب سيك” تمهّد الطريق لإعلان أكبر يتمثل في إطلاق هذه الرقائق المحلية المتقدمة في المستقبل القريب. وإن صحت هذه التوقعات، فإن هذه الرقائق ستمنح الشركات الصينية ميزة تنافسية واضحة، سواء من ناحية تحسين أداء تقنيات الذكاء الاصطناعي أو من حيث تقليل الاعتماد على الموردين الأجانب، ما يعزز الاستقلالية التكنولوجية للصين.
الجدير بالذكر أن “ديب سيك” هي واحدة من أبرز الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي في الصين، وقد اكتسبت شهرة واسعة بفضل نماذجها اللغوية القوية ومساهماتها المتسارعة في هذا القطاع. ويعكس إعلانها الأخير رغبة الصين الواضحة في قيادة مستقبل الذكاء الاصطناعي عالميًا، ليس فقط على مستوى البرمجيات والخوارزميات، بل أيضًا من خلال تطوير البنية التحتية المادية اللازمة مثل الرقائق المتقدمة.
في النهاية، إذا ما تم إطلاق هذه الرقائق المحلية قريبًا كما ألمحت “ديب سيك”، فإننا قد نشهد بداية فصل جديد في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي، يكون للصين فيه دور محوري يتجاوز مجرد اللحاق بالركب، ليصل إلى مرحلة الريادة والابتكار المستقل.
في ظل التطور المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي، برزت صيغة جديدة لمعالجة البيانات تُعرف باسم “FP8″، والتي تُعد أداة تقنية واعدة يُمكن أن تُحدث نقلة نوعية في كفاءة الحوسبة، خاصة عند استخدامها في تدريب وتشغيل نماذج التعلم العميق ذات الأحجام الكبيرة. ووفقًا لتقرير نشرته قناة “سي إن بي سي” فإن هذه الصيغة تمثل تطورًا تقنيًا مهمًا يُمكن أن يُقلل من استهلاك الطاقة والموارد عند استخدام الشبكات العصبية المعقدة.
ويُعد التعلم العميق أحد فروع الذكاء الاصطناعي الأكثر تطورًا، حيث يعتمد على بناء شبكات عصبية اصطناعية مستوحاة من طريقة عمل الدماغ البشري، ما يُتيح لها القدرة على تحليل كميات ضخمة من البيانات واستخلاص أنماط معقدة. وفي هذا السياق، يظهر اسم شركة “ديب سيك” الصينية كمنافس قوي في هذا القطاع، خاصة بعد تلميحاتها الأخيرة بشأن تطوير رقائق جديدة تُلائم صيغة “FP8″، ما يُشير إلى توجهها نحو تعميق التعاون مع قطاع رقائق الذكاء الاصطناعي المحلي في الصين.
ويأتي هذا التوجه في وقت تفرض فيه الولايات المتحدة قيودًا صارمة على تصدير أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين، ضمن مساعيها للحد من قدرة الشركات الصينية على تطوير تقنيات ذكاء اصطناعي متقدمة. وفي المقابل، تسعى بكين إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال تطوير منظومة صناعية محلية بديلة، وتشجيع الشركات على تقليل الاعتماد على الموردين الغربيين، وعلى رأسهم شركة “إنفيديا”، التي تُعد المزود الرئيسي لوحدات معالجة الرسومات المستخدمة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.
وقد حثّت السلطات الصينية، في وقت سابق هذا الشهر، مطوّري الذكاء الاصطناعي المحليين على استخدام بدائل وطنية لوحدات “إنفيديا”، في خطوة تُجسد مساعي بكين لتعزيز استقلالها التكنولوجي. ورغم أن المحللين يؤكدون أن الشركات الصينية ما زالت متأخرة عن “إنفيديا” من حيث التطور التقني وحجم الإنتاج، إلا أن شركات مثل “هواوي” أحرزت تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال، ما يعزز احتمالات نشوء بيئة تنافسية حقيقية خلال السنوات المقبلة.
من جانبها، أثارت شركة “ديب سيك” اهتمام الأوساط التقنية بعد إصدارها نموذج “R1” في وقت سابق من هذا العام، والذي أظهر أداءً يُضاهي النماذج الغربية المتقدمة مثل “GPT” من شركة “OpenAI”، رغم القيود التي منعتها من استخدام أحدث رقائق “إنفيديا”. كما أطلقت في ديسمبر نموذج “V3″، الذي دربته باستخدام حوالي 2000 وحدة من رقائق إنفيديا القديمة.
ورغم عدم إفصاحها عن نوع الرقائق التي استخدمتها في تدريب الإصدار “3.1”، أو عن مدى توافقها مع صيغة “UE8M0 FP8″، إلا أن الخطوات التي تتخذها الشركة تشير إلى توجه استراتيجي جديد لتطوير بنية تحتية حوسبية مستقلة، قادرة على تجاوز التحديات التي فرضتها السياسات الأمريكية. ويبدو أن الصين تتجه إلى ترسيخ موقعها في سوق الذكاء الاصطناعي العالمي، مستفيدة من تقنيات جديدة مثل “FP8” لتقليص الفجوة مع الغرب.