تقنية

تكنولوجيا الرقائق

في السنوات الأخيرة، تحولت المدن الكبرى في الصين إلى ميادين تنافس شديدة في سبيل جذب الاستثمارات وتطوير صناعة أشباه الموصلات، وذلك في إطار جهود استراتيجية وطنية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الرقائق الإلكترونية والحد من التبعية للتكنولوجيا الغربية، خاصة في ظل التصعيد المتواصل في المواجهة التكنولوجية بين بكين وواشنطن.

 تكنولوجيا الرقائق
تكنولوجيا الرقائق

هذا التحول اللافت يعكس إدراك الصين العميق لأهمية قطاع أشباه الموصلات في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي، وكذلك الدور الحيوي الذي تلعبه الرقائق في مجالات متعددة مثل الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والتقنيات العسكرية، والسيارات الكهربائية. ومن هذا المنطلق، أصبحت حكومات المدن الكبرى مثل شينزن وشنغهاي وهانغتشو، وحتى المقاطعات الداخلية مثل هوبي، تتنافس فيما بينها عبر إطلاق مبادرات محلية وصناديق تمويل ضخمة تهدف إلى استقطاب المواهب والاستثمارات في هذا القطاع الحاسم.

وتعد هذه الخطوات جزءاً من استراتيجية وطنية أوسع تتبناها الحكومة المركزية، والتي تهدف إلى بناء سلسلة إمداد مكتفية ذاتياً لأشباه الموصلات، بدءاً من التصميم ووصولاً إلى التصنيع المتقدم والتغليف. ففي ظل القيود والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على بعض الشركات الصينية، وأبرزها شركة “هواوي”، بات من الضروري بالنسبة لبكين تسريع خطواتها نحو تأمين بنية تحتية تقنية متكاملة لا تعتمد على الخارج.

وقد أعلنت بعض المدن عن خطط لإقامة مجمعات صناعية متخصصة في الرقائق، وتقديم حوافز ضريبية وتسهيلات مالية للشركات الناشئة والمصانع والمراكز البحثية، في مسعى لجعلها مراكز جذب للمواهب المحلية والعالمية. فعلى سبيل المثال، خصصت شينزن تمويلاً ضخماً لدعم الشركات العاملة في مجال تصنيع الرقائق وتطوير معدات الإنتاج، بينما تعمل شنغهاي على دعم الابتكار من خلال شراكات بين الجامعات ومراكز الأبحاث والمصانع.

ومن جهة أخرى، تبرز المنافسة الداخلية بين هذه المدن بوصفها ظاهرة جديدة نسبياً، إذ كانت القرارات التنموية الكبرى في السابق تأتي بشكل مركزي. أما اليوم، فباتت الحكومات المحلية أكثر انخراطاً في صياغة وتنفيذ المبادرات الاقتصادية، ما يعكس درجة من اللامركزية في التعامل مع التحديات التكنولوجية.

وتشير هذه الديناميكية المتصاعدة إلى إدراك الصين أن المعركة في مجال أشباه الموصلات ليست فقط مع الخارج، بل تبدأ من الداخل، من خلال بناء منظومة متكاملة تتعاون فيها الحكومات المحلية والمستثمرون والجامعات والشركات الخاصة. وتُعتبر هذه الجهود محاولة جادة لتعويض الفجوة التكنولوجية مع الدول المتقدمة، في وقت تتحول فيه الرقائق إلى أحد أبرز عناصر السيادة الوطنية في العصر الرقمي.

في المحصلة، يبدو أن الصين ماضية بقوة نحو تعزيز صناعتها المحلية للرقائق، مستفيدة من التنافس الداخلي بين مدنها الكبرى، في وقت يتصاعد فيه التوتر مع الولايات المتحدة حول من ستكون له اليد العليا في المستقبل التكنولوجي للعالم.

في مدينة شينزن، المعروفة بلقب “وادي السيليكون الصيني”، أعلنت السلطات عن إنشاء صندوق استثماري جديد بقيمة 5 مليارات يوان (ما يعادل نحو 700 مليون دولار أميركي) مخصص لدعم مجالات تصميم الرقائق، وتصنيع المعدات الدقيقة، وتقنيات التغليف المتقدمة. هذا الصندوق، الذي يستمر لعشر سنوات، يتم تمويله بالشراكة بين الحكومة المحلية وعدد من شركات الاستثمار المملوكة للدولة، في خطوة تعكس التزام المدينة بتعزيز ريادتها في الصناعات التكنولوجية المتقدمة.

ويؤكد بنغ بنغ، رئيس “جمعية إصلاح قوانغدونغ”، أن الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات يمثلان الآن جبهة المواجهة الجديدة في سباق التطوير بين المدن الصينية. ويرى أن شينزن لطالما كانت في طليعة المدن التي تتبنى استراتيجيات استباقية لدعم الصناعات الناشئة، من خلال توفير التمويل والدعم المؤسسي لتشجيع الابتكار.

لكن الطموح التكنولوجي لا يقتصر على شينزن وحدها، حيث سارعت مدن صينية أخرى إلى إطلاق مبادرات مماثلة. ففي شنغهاي، تم تأسيس صناديق جديدة بقيمة 1.5 مليار يوان لدعم الشركات المتخصصة في معدات تصنيع الرقائق، إلى جانب إطلاق صندوق أسهم خاص بقيمة 5.7 مليارات يوان بتمويل حكومي، يهدف إلى تسريع نمو القطاع الصناعي المرتبط بأشباه الموصلات.

وفي السياق ذاته، أطلقت مدينة هانغتشو في أغسطس الماضي صندوقاً استثمارياً ضخماً تبلغ قيمته 10 مليارات يوان، ضمن خطة طموحة لتحويل صناعة أشباه الموصلات إلى ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي المحلي. أما في مقاطعة هوبي، فقد تم الإعلان عن مشروع جديد تبلغ قيمته 20.7 مليار يوان، بقيادة شركة YMTC المتخصصة في إنتاج رقاقات الذاكرة.

ووفقاً لتقرير صادر عن “مركز الابتكار الصناعي الوطني للتقنيات المتقدمة”، يُقدَّر حجم صناعة أشباه الموصلات في الصين بحوالي 1.8 تريليون يوان (ما يعادل نحو 250 مليار دولار)، مما يضعها في موقع استراتيجي في خارطة التكنولوجيا العالمية. ويؤكد التقرير أن المدن الثلاث الكبرى — شينزن وشنغهاي وبكين — لا تزال تحتفظ بالمراكز الأولى في هذا القطاع الحيوي، وتلعب دوراً محورياً في رسم مستقبل الصناعة.

ورغم هذا النمو السريع والتوسع الاستثماري، لا تزال الصين تواجه تحديات تقنية كبيرة، لا سيما في مجالات التصنيع المتقدم وتقنيات التغليف الدقيقة، وهي المجالات التي تواجه فيها البلاد قيوداً مشددة من الولايات المتحدة، التي تفرض حظراً على تصدير بعض المعدات الحيوية.

مع ذلك، يبدو أن بكين تراهن على المنافسة الداخلية بين مدنها الكبرى كوسيلة لتجاوز هذه التحديات، عبر تعزيز القدرات الذاتية والاعتماد على الابتكار المحلي لتقليص الفجوة التكنولوجية بينها وبين الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى