تيك توك

يشهد سوق مقاطع الفيديو القصيرة تغيرًا جذريًا مع تنامي هيمنة تطبيق “تيك توك” الذي بات لاعبًا رئيسيًا في هذا المجال، في حين تتسابق شركات التكنولوجيا الكبرى للحاق بالركب وتقديم خدمات تنافسية مماثلة. فقد استطاع التطبيق أن يرسخ مكانته عالميًا ويستقطب قاعدة جماهيرية ضخمة، ما جعله يُعد أحد أكثر التطبيقات تأثيرًا في السنوات الأخيرة.
منذ إطلاقه العالمي في عام 2016، تمكن “تيك توك”، الذي تملكه شركة “بايت دانس” الصينية، من تحقيق نجاح منقطع النظير، وجذب أكثر من 1.12 مليار مستخدم نشط شهريًا على مستوى العالم، بحسب بيانات نشرها موقع “Backlinko”، المتخصص في تقديم نصائح لأصحاب المواقع الإلكترونية لزيادة عدد الزوار وتحسين محركات البحث. هذا الرقم الهائل يعكس النمو السريع للتطبيق وقدرته على جذب المستخدمين من مختلف الفئات العمرية والثقافات.
يُعزى جزء كبير من هذا النجاح إلى طبيعة المحتوى القصير والسريع

الذي يتيح للمستخدمين مشاهدة مجموعة كبيرة من المقاطع في وقت محدود، ما يخلق تجربة استخدام إدمانية إلى حد كبير. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يقضي المستخدم العادي نحو 108 دقائق يوميًا على التطبيق، وفقًا لبيانات منصة “Apptopia” التي نُقلت في تقرير لشبكة “CNBC” الإخبارية. هذه الأرقام توضح مدى التفاعل العميق بين المستخدمين والمنصة، إذ أصبحت جزءًا أساسيًا من روتينهم اليومي.
أمام هذا الصعود اللافت، لم تقف شركات التكنولوجيا الكبرى مكتوفة الأيدي، إذ سارعت منصات مثل “يوتيوب” و”إنستغرام” و”سناب شات” إلى تطوير خصائص مشابهة لمقاطع الفيديو القصيرة. أطلقت “يوتيوب” ميزة “شورتس”، في حين قدمت “إنستغرام” خاصية “ريلز”، وكلتاهما تسعيان لاستقطاب شريحة المستخدمين نفسها التي يهيمن عليها “تيك توك”. ومع ذلك، فإن استنساخ النموذج الناجح لـ”تيك توك” لم يكن بالأمر السهل، حيث لا تزال تلك المنصات تسعى لاكتساب نفس القدر من الجاذبية والتفاعل.
التحدي الأكبر الذي يواجه هذه المنصات يتمثل في خلق تجربة استخدام تفاعلية ومسلية بالقدر الذي يقدمه “تيك توك”، بالإضافة إلى تطوير خوارزميات ذكية تستطيع تقديم محتوى مخصص لكل مستخدم بناءً على تفضيلاته الشخصية. وقد استطاع “تيك توك” أن يتفوق في هذا الجانب بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة التي يعتمدها، ما ساهم في تعزيز قدرته على جذب المستخدمين وإبقائهم أطول فترة ممكنة على المنصة.
من جهة أخرى، يثير هذا النمو المتسارع قلقًا متزايدًا لدى بعض الحكومات، خصوصًا في الغرب، بسبب مخاوف تتعلق بالخصوصية والأمن القومي، ما دفع بعض الدول إلى دراسة إمكانية حظر التطبيق أو فرض قيود صارمة عليه. ومع ذلك، لا يزال “تيك توك” يحافظ على مكانته كواحد من أكثر التطبيقات شعبية وتأثيرًا في العصر الرقمي.
يواصل “تيك توك” تعزيز قبضته على سوق مقاطع الفيديو القصيرة
في ظل سعي مستمر من منافسيه لكسر هذه الهيمنة. فهل ستنجح هذه المنصات في استعادة زمام المبادرة، أم سيبقى “تيك توك” في الصدارة لفترة أطول؟
نجح تطبيق “تيك توك” في إحداث تحول كبير في مشهد وسائل التواصل الاجتماعي، حيث دفع شركات كبرى مثل “ميتا” و”غوغل” إلى إعادة التفكير في استراتيجياتها والتركيز على تقديم محتوى الفيديو القصير. ومع ذلك، يرى الخبراء أن أياً من هذه الشركات لم يتمكن من الوصول إلى نفس مستوى دقة خوارزميات “تيك توك”، التي أثبتت فعاليتها في جذب انتباه المستخدمين بشكل غير مسبوق.
تقول ياسمين إنبرغ، المحللة البارزة في شركة “emarketer”، إن “تيك توك” أصبح بمثابة مركز الإنترنت لجيل الشباب. فالمستخدمون لا يتجهون إليه فقط للترفيه، بل أيضاً لمتابعة الأخبار، ومواكبة الصيحات، وحتى التسوق. لقد بات “تيك توك” هو الذي يحدد ملامح الثقافة الرقمية اليومية.
أطلقت “ميتا” ميزة “ريلز” على إنستغرام
بينما قدمت “غوغل” خدمة “شورتس” على يوتيوب، وكلتاهما تركز على مقاطع الفيديو القصيرة. كما قدمتا أدوات جديدة لدعم صانعي المحتوى، ودرستا إطلاق تطبيقات مستقلة لتعزيز المنافسة مع “تيك توك”. وحتى “لينكدإن”، الذي يُعرف بطابعه المهني، دخل على الخط من خلال تجربة موجز يشبه ما يقدمه “تيك توك”.
ورغم هذا التنافس الشديد، يواصل “تيك توك” تطوير نفسه، مضيفاً ميزات مثل دعم التجارة الإلكترونية والفيديوهات الطويلة، مما يطرح تساؤلات حول قدرة المنصات الأخرى على مواكبة هذا الزخم.
تتفوق خوارزمية “تيك توك” بقدرتها الفائقة على تخصيص المحتوى
وهو ما يجعل المستخدمين يقضون ساعات طويلة في التمرير عبر التطبيق. لكن هذا التفاعل العالي ليس خاليًا من السلبيات. يحذر متخصصون من أن الإفراط في استهلاك هذه المقاطع القصيرة يؤدي إلى تقلص فترات التركيز وارتفاع مستويات القلق، خاصةً بين الفئات العمرية الأصغر.
يشير الدكتور يان بونسين، أستاذ مساعد في مركز دراسات الطفل بجامعة ييل، إلى أن نمط الترفيه القائم على التمرير اللامتناهي مصمم لجذب انتباه المستخدم للحظات قصيرة فقط، خلافًا للتجارب القصصية الطويلة التي كانت تقدمها وسائل الإعلام سابقًا. هذا التحول، كما يقول، يؤثر على جودة النوم والصحة النفسية.
ورغم التفاعل الكبير، لا تزال مسألة تحقيق الدخل من الفيديوهات القصيرة تشكل تحديًا. فالإعلانات لا تجد نفس المساحة التي كانت متوفرة في محتوى “يوتيوب” الطويل، مما يحد من العائدات للمعلنين والمبدعين على حد سواء. فعلى سبيل المثال، يدفع “يوتيوب شورتس” نحو أربعة سنتات لكل ألف مشاهدة، وهو أقل بكثير من عائدات الفيديوهات الأطول. أما “إنستغرام”، فقد اتجه إلى تمكين المبدعين من اختبار أفكار جديدة عبر ميزة “Trial Reels”، في محاولة لإيجاد طرق مبتكرة لتحقيق الدخل.
ورغم أن “تيك توك” حقق حوالي 23.6 مليار دولار من عائدات الإعلانات في العام الماضي، إلا أن الكثير من صانعي المحتوى لا يزالون يحصلون على مكاسب مالية محدودة، مما يشير إلى فجوة كبيرة بين النمو التجاري والمنفعة الفردية.
ومع تصاعد النقاشات السياسية حول ملكية “تيك توك” الصينية وإمكانية حظره في الولايات المتحدة، ترى شركات مثل “ميتا” و”يوتيوب” فرصة للاستفادة. إذ تُقدّر “emarketer” أنهما قد تستحوذان على ما يصل إلى نصف أموال الإعلانات التي قد تُعاد تخصيصها في حال فرضت قيود على “تيك توك”.