تقنية

الصين

الصين تُكثّف خطواتها نحو الريادة التكنولوجية وسط تنافس محتدم مع الولايات المتحدة

تسير الصين بخطى متسارعة نحو تعزيز مكانتها كقوة تكنولوجية عالمية، مركّزة جهودها على تطوير ما تُسمى بـ”الصناعات المستقبلية”، في إطار منافسة تزداد حدة مع الولايات المتحدة التي تسعى بدورها إلى الحفاظ على تفوقها في هذا المجال. وتعد هذه الصناعات، التي تشمل مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، والطاقة المتجددة، والحوسبة الكمّية، محورًا استراتيجيًا في خطط بكين طويلة الأجل لإعادة تشكيل نموذج نموها الاقتصادي

الصين
الصين

تُدرك القيادة الصينية أن النموذج القائم على التصنيع التقليدي والتوسع العمراني قد بلغ حدوده، وأن التحديات الاقتصادية العالمية، إضافة إلى التوترات الجيوسياسية، تتطلب إعادة توجيه الاقتصاد نحو الابتكار والتكنولوجيا. وفي هذا السياق، تعمل الحكومة على تسريع وتيرة الاستثمارات في البحث والتطوير، وتحفيز الشركات على تبني تقنيات متقدمة، وتوسيع قاعدة المهارات التقنية في صفوف القوى العاملة.

وقد أعلنت الصين في السنوات الأخيرة عن مجموعة من المبادرات والاستراتيجيات الطموحة، من بينها “صُنع في الصين 2025″، والتي تهدف إلى ترقية الصناعات الصينية لتكون أكثر اعتمادًا على الابتكار وأقلّ اعتمادًا على التكنولوجيا الأجنبية. كما أطلقت برامج وطنية ضخمة لتطوير قطاعات استراتيجية مثل تكنولوجيا المعلومات المتقدمة، والمركبات الكهربائية، والطائرات التجارية، بالإضافة إلى دعم ريادة الأعمال في مجالات التكنولوجيا الفائقة.

في المقابل، تواجه هذه الجهود الصينية تحديات خارجية كبيرة، أبرزها القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على صادرات التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين، وعلى رأسها أشباه الموصلات المتطورة. وقد أدى هذا التنافس إلى ظهور ما يُعرف بـ”الانفصال التكنولوجي” بين العملاقين، حيث تسعى كل من بكين وواشنطن إلى بناء سلاسل توريد مستقلة وتقليل الاعتماد المتبادل في القطاعات الحساسة.

ومع ذلك، لم تثنِ هذه القيود الصين عن المضي قدمًا في مساعيها. بل إنها زادت من إصرارها على تحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، حيث توجهت بكين إلى تعزيز التعاون المحلي بين الجامعات والمراكز البحثية والشركات الناشئة، بهدف تسريع وتيرة الابتكار. كما تقدم الدولة دعمًا ماليًا ولوجستيًا كبيرًا للقطاعات التي تعتبرها ركيزة لمستقبل الاقتصاد الصيني.

ويرى مراقبون أن هذا التحول الاستراتيجي نحو التكنولوجيا لا يعكس فقط رغبة في الحفاظ على النمو الاقتصادي، بل يحمل أيضًا أبعادًا سياسية وجيوسياسية، إذ تسعى الصين إلى تأمين استقلالها في المجالات الحيوية وتثبيت مكانتها كقوة عظمى في النظام العالمي الجديد.

في المحصلة، فإن مساعي الصين في هذا الاتجاه تُظهر رغبة واضحة في الانتقال من كونها “مصنع العالم” إلى أن تصبح “مختبر العالم”، حيث تلعب التكنولوجيا دورًا محوريًا في رسم ملامح المستقبل الاقتصادي والهيمنة الصناعية في القرن الحادي والعشرين.

ما هي الصناعات المستقبلية؟

أُطلق مصطلح “الصناعات المستقبلية” لأول مرة على لسان الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2020، ويشير إلى قطاعات تقنية لا تزال في بداياتها، لكنها تمتلك إمكانيات ضخمة للنمو والتأثير مستقبلاً. ووفقًا لتقرير نشره موقع “SCMP”، فإن هذه القطاعات تمثل مجالات واعدة يُتوقع أن تُشكّل ركائز الاقتصاد الجديد.

زوايا تقنية

روبوت بشري صيني يقوم بالطهي باستخدام الواقع الافتراضي

أبرزت الخطة الخمسية (2021–2025) عددًا من المجالات التي تسعى الصين للريادة فيها مبكرًا، منها: الذكاء المُستوحى من الدماغ، الحوسبة الكمّية، تكنولوجيا الجينات، شبكات المستقبل، استكشاف أعماق البحار والفضاء، طاقة الهيدروجين وتخزينها، والروبوتات الشبيهة بالبشر.

هذه المجالات ليست مجرد طموحات تكنولوجية، بل تشكّل نواة استراتيجية صينية شاملة تهدف إلى بناء اقتصاد قائم على الابتكار وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الغربية.

كيف تتقدم الصين على هذا المسار؟

في عام 2024، وضعت وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات (MIIT) أهدافًا واضحة، شملت تطوير طائرات الجيل الجديد، وإنشاء مراكز بيانات للذكاء الاصطناعي، وتصنيع روبوتات تُحاكي السلوك البشري.

وتبرز مدينة هانغتشو، المعروفة بـ”وادي السيليكون الصيني”، كمركز حيوي للشركات الناشئة التقنية، منها:

DeepSeek (الذكاء الاصطناعي)
Game Science (تطوير الألعاب – Black Myth: Wukong)
Unitree وDeep Robotics (الروبوتات)
BrainCo (تكنولوجيا مستلهمة من Neuralink)
Manycore (الذكاء المكاني)

ووفقًا لتقرير “مورغان ستانلي”، فإن الصين تمتلك 56% من شركات الروبوتات البشرية المدرجة عالميًا، و45% من مطوري أنظمة الروبوتات.

قطاع التكنولوجيا الحيوية

في مجال التكنولوجيا الحيوية، أحرزت الصين تقدمًا كبيرًا، خاصة في علاجات CAR-T القائمة على الخلايا التائية. حتى مارس 2025، تمت الموافقة على خمسة علاجات، ما يجعلها ثاني دولة في العالم بعد الولايات المتحدة في هذا المجال.

ومن أبرز الشركات الصينية هنا شركة WuXi AppTec ، التي وصفها بعض المشرعين الأميركيين بأنها “هواوي قطاع التكنولوجيا الحيوية”، محذرين من احتمال سيطرة الصين على سلاسل الإمداد في هذا القطاع الحساس.

دعم حكومي واسع النطاق

الحكومة الصينية تستثمر بكثافة في هذه الصناعات من خلال:

توفير التمويل المباشر
تطوير الكفاءات البشرية
تسهيل إدراج الشركات التقنية في البورصات
تقديم أدوات تمويل مبتكرة، مثل سندات الابتكار والتمويل عبر تقنيات البلوكتشين

ولتحفيز الابتكار، أطلقت الوزارة مبادرة تعلن فيها عن التحديات التقنية الكبرى، وتُمنح الحلول المبتكرة دعمًا وتمويلًا سريعًا. ومع وجود نقص حاد في الكفاءات المتخصصة، بدأت بعض الشركات بعرض رواتب تصل إلى أربعة أضعاف المتوسط الوطني لجذب أفضل المواهب.

لماذا تهم العالم؟

رهان الصين على “صناعات المستقبل” ليس مجرد مشروع محلي، بل توجه استراتيجي يعيد رسم خريطة القوة التكنولوجية العالمية.

ففي حال تمكنت الصين من الريادة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الحوسبة الكمّية، أو التكنولوجيا الحيوية، فإنها قد تصبح محورًا عالميًا لا غنى عنه في الابتكار – وهو ما يثير قلقًا متزايدًا لدى الدول الغربية، التي تخشى فقدان تفوقها التاريخي في هذه المجالات الحيوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى