غوغل
في خطوة تعكس التحول الكبير داخل إحدى أكبر شركات التكنولوجيا في العالم قررت غوغل تعزيز موقعها في سباق الذكاء الاصطناعي من خلال ترقية أمين وحدت إلى منصب كبير خبراء بنية الذكاء الاصطناعي وهو منصب جديد يتم استحداثه للمرة الأولى داخل الشركة ويضعه مباشرة في مستوى القيادة العليا إلى جانب الرئيس التنفيذي سوندار بيتشاي. هذه الترقية لم تكن مجرد تغيير وظيفي عابر بل تمثل إشارة واضحة إلى حجم الأهمية التي تمنحها غوغل لتطوير بنيتها التحتية في مجال الذكاء الاصطناعي خاصة مع التوسع الهائل الذي يشهده القطاع وتزايد الحاجة إلى أنظمة أكثر قوة وقدرة على التعامل مع الطرازات المتقدمة التي تتطلب طاقة حسابية غير مسبوقة.

وتشير التقارير التي كشفت القرار ثم أكدت الشركة صحتها إلى أن غوغل تضع رهانا كبيرا على هذا المسار إذ تستعد لإنفاق ما يقارب ثلاثة وتسعين مليار دولار على الاستثمارات الرأسمالية بحلول نهاية عام الفين وخمسة وعشرين وهو رقم مرشح للزيادة بشكل لافت في العام الذي يليه. هذا الاستثمار الضخم يوضح أن الشركة تعتبر أن المنافسة المقبلة في عالم الذكاء الاصطناعي لن تعتمد فقط على خوارزميات مبتكرة أو نماذج لغوية قوية بل على البنية التحتية العميقة التي تدعم هذه النماذج وتوفر لها الطاقة والمعالجة والقدرة على التوسع.
ويعد أمين وحدت شخصية محورية في هذا المسار فهو ليس اسما جديدا داخل غوغل إذ بدأ مسيرته البحثية في شركة زيروكس في أوائل التسعينيات قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في بيركلي ثم ينضم إلى غوغل ليقضي خمسة عشر عاما في بناء ما يشبه العمود الفقري الذي تعتمد عليه أنظمة الذكاء الاصطناعي داخل الشركة. وخلال هذه السنوات تمكن من تطوير رؤى تقنية واستراتيجيات عميقة ساهمت في إنشاء طبقة تحتية ضخمة تجعل من الممكن تدريب النماذج وتشغيلها على نطاق عالمي.
وتأتي هذه الترقية في وقت تواجه فيه غوغل منافسة متصاعدة من شركات أخرى تعمل بوتيرة متسارعة لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة ما يجعل قوة البنية التحتية عاملا أساسيا في قدرة الشركة على الابتكار والبقاء في موقع الريادة. كما أن دور وحدت في منصبه الجديد لن يقتصر على الإشراف التقني فقط بل سيمتد إلى وضع خارطة الطريق التي ستحدد كيفية استثمار مليارات الدولارات في شبكات الحوسبة المتقدمة ومراكز البيانات والتقنيات الداعمة للجيل التالي من نماذج الذكاء الاصطناعي.
ومن المتوقع أن يسهم هذا التوجه في تعزيز قدرة غوغل على إطلاق تقنيات أكثر تطورا خلال السنوات المقبلة إضافة إلى تحسين كفاءة عملياتها الداخلية وتقليل الفجوة بينها وبين المنافسين في سوق يشهد تغيرات متسارعة وضغوطا مستمرة للابتكار. كما أن وجود شخصية بخبرة وحدت في موقع استراتيجي كهذا قد يمنح الشركة قدرة أكبر على دمج الأبحاث المتقدمة بالحلول العملية وتحويل الأفكار النظرية إلى أدوات تستخدم على نطاق واسع.
وبذلك تبدو خطوة تعيينه إعلانا غير مباشر عن بداية مرحلة جديدة داخل غوغل مرحلة تركز على العمق البنيوي بدلا من المظاهر السطحية وعلى الاستثمار طويل الأمد بدلا من الحلول الآنية وعلى بناء أساس قوي يستطيع حمل المستقبل الذي تتطلع إليه الشركة في عالم يزداد اعتمادا على الذكاء الاصطناعي يوما بعد يوم.
قبل انضمام هشام وحدت إلى شركة غوغل في عام 2010 كان قد أمضى سنوات طويلة في المجال الأكاديمي باحثا وأستاذا في عدد من أهم الجامعات الأمريكية. فقد بدأ مسيرته في جامعة ديوك حيث شغل منصب أستاذ متخصص في هندسة الحاسوب والأنظمة عالية الأداء، وحقق حضوراً لافتاً بين طلابه وزملائه بفضل أبحاثه التي كانت تركز على تعزيز كفاءة الحوسبة وتطوير بنى تحتية قادرة على التعامل مع أحجام متنامية من البيانات. ثم انتقل لاحقا إلى جامعة كاليفورنيا في سان دييغو ليتولى منصب أستاذ ورئيس كرسي SAIC، وهناك واصل توسيع جهوده البحثية التي أثمرت عبر مسيرته عن ما يقارب أربعمائة ورقة علمية تتركز غالبيتها حول موضوع تحسين أداء الأنظمة الحاسوبية عند العمل على نطاقات عملاقة. وقد أسهم هذا الإنتاج العلمي الضخم في ترسيخ مكانته كأحد أبرز الباحثين في مجاله.
وقد ازداد حضور وحدت في المشهد التقني العالمي في شهر أبريل الماضي حين اعتلى منصة مؤتمر Google Cloud Next ليكشف عن الجيل السابع من معالجات غوغل المخصصة للذكاء الاصطناعي والمعروفة باسم Ironwood. وكان وقع الأرقام التي أعلنها كبيرا على الحاضرين، إذ أوضح أن كل مجموعة حوسبة تحتوي على أكثر من تسعة آلاف شريحة تعمل مجتمعة على توفير قدرة تصل إلى أكثر من اثنين وأربعين إكسا فلوب من المعالجة، وهي قوة تفوق بما يزيد على أربع وعشرين مرة قدرة أقوى الحواسيب الخارقة الموجودة عند ذلك الوقت. وأشار خلال كلمته إلى الارتفاع الهائل في الطلب على قدرات الحوسبة الخاصة بالذكاء الاصطناعي مؤكدا أن هذا الطلب تضاعف بما يعادل مئة مليون مرة خلال ثمانية أعوام فقط، وهو ما يعكس التحول السريع الذي يشهده القطاع.
لكن الدور الأهم لوحدت لا يظهر فقط على المنصات العامة، بل يكمن فيما يجري خلف الكواليس داخل غوغل. فهو يقود منذ سنوات تطوير شرائح TPU التي تعتمد عليها الشركة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتشغيلها، وهي الشرائح التي تمنح غوغل أفضلية حقيقية في السباق المحتدم مع جهات منافسة مثل OpenAI. كما يتولى الإشراف على شبكة Jupiter الداخلية التي تمثل عصب نقل البيانات داخل مراكز بيانات الشركة. وتتميز هذه الشبكة بسرعة فائقة تصل إلى ثلاثة عشر بيتابت في الثانية، وهي قدرة هائلة تكفي من حيث المبدأ لتشغيل مكالمة فيديو لكل سكان العالم في اللحظة ذاتها من دون أن تتعرض للانقطاع.
أما على مستوى البنية التحتية للأنظمة فقد كان وحدت أحد المهندسين الذين طوّروا نظام Borg الذي تستخدمه غوغل لإدارة مراكز البيانات وتنسيق العمل بين آلاف الخوادم بطريقة تجعلها تتصرف وكأنها بنية واحدة متجانسة تشبه دماغا ضخما. كما شارك في الإشراف على تصميم معالجات Axion التي تعد أول معالجات تعتمد على معمارية Arm مخصصة للخوادم من تصميم غوغل نفسها، وهو ما يشكل خطوة استراتيجية تمنح الشركة استقلالية أكبر في التحكم بمستقبل تقنياتها الأساسية.
يمكن القول إن هشام وحدت يمثل أحد الأعمدة الرئيسية التي ترتكز عليها قصة الذكاء الاصطناعي داخل غوغل، إذ تجمع خبرته بين الرؤية البحثية العميقة والقدرة على تحويل هذه الرؤية إلى أنظمة ومنتجات تستخدم على نطاق عالمي. ويشير خبراء في القطاع إلى أن ترقية مهندس يتمتع بثقل كهذا تعكس رغبة الشركة في الحفاظ على المواهب التي استغرق بناؤها أكثر من خمسة عشر عاما، إذ يصعب على أي مؤسسة أن تسمح برحيل شخصية لها هذا القدر من التأثير في قلب عملياتها الحيوية.




