سبوتيفاي

في الأزمنة السابقة، كان الإبداع الفني يُعد أحد أكثر جوانب التجربة الإنسانية تفردًا. كان الفن، بجميع أشكاله من موسيقى ورسم وأدب، نتاجًا للحس الإنساني، وتعبيرًا شخصيًا عن المشاعر، والتجارب، والرؤى الفردية. لم يكن بالإمكان تخيل أن تحل الآلات محل الإنسان في ميادين كهذه، حيث يُفترض أن الإبداع يتطلب شيئًا يتجاوز المعالجة المنطقية للبيانات، وهو “الروح”.

لكن هذا التصور بدأ يتغير تدريجيًا مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخاصة الذكاء الاصطناعي التوليدي. فقد باتت الأنظمة الحاسوبية قادرة على تحليل كميات هائلة من البيانات الفنية، والتعلم من أنماطها، وإنتاج محتوى جديد يشبه إلى حد بعيد ما ينتجه البشر. هذا التحول فتح الباب أمام نقاشات عميقة حول حدود الإبداع، ودور الإنسان فيه، ومصير الفن في العصر الرقمي.
مثال حي على هذا التحول ظهر مؤخرًا في عالم الموسيقى، حيث برزت فرقة جديدة تُدعى “ذا فيلفيت صن داون” (The Velvet Sun Down) على منصة “سبوتيفاي”، واستقطبت خلال فترة قصيرة أكثر من نصف مليون مستمع. وبالنظر إلى هذا النجاح السريع، قد يظن البعض أنها فرقة موسيقية تقليدية تتألف من مجموعة من الفنانين الموهوبين. لكن المفاجأة، كما كشف تقرير نشره موقع “Ars Technica”، أن “ذا فيلفيت صن داون” ليست فرقة بشرية على الإطلاق، بل مشروع موسيقي تم إنشاؤه بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي.
لقد تم تطوير هذا المشروع من خلال خوارزميات متقدمة قادرة على توليد أغانٍ أصلية، تشمل الألحان، والكلمات، والتوزيع الموسيقي، وحتى الأصوات الغنائية المصطنعة التي تحاكي الأداء البشري. ويبدو أن جودة هذه الأعمال بلغت حدًا جعل من الصعب على المستمعين التمييز بينها وبين الإنتاج البشري الحقيقي.
تثير هذه الظاهرة تساؤلات جوهرية حول مستقبل الفن والموسيقى. هل ما تنتجه الآلات يمكن اعتباره فنًا حقيقيًا؟ هل يمكن أن يمتلك الذكاء الاصطناعي حسًا فنيًا؟ وماذا سيكون دور الفنان البشري في عالم يتقن فيه الذكاء الاصطناعي تقليد الإبداع الإنساني بل وربما التفوق عليه من حيث السرعة والانتشار؟
من جهة، يرى البعض في هذا التطور فرصة لتوسيع آفاق الإبداع، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة قوية لدعم الفنانين وتطوير أفكارهم. ومن جهة أخرى، يحذر آخرون من خطر طغيان الإنتاج الاصطناعي على الفن الحقيقي، مما قد يؤدي إلى تهميش الفنانين البشر وإفراغ العملية الفنية من جوهرها الإنساني.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: في عالم تتداخل فيه الحدود بين الإنسان والآلة، من سيقود مستقبل الإبداع؟ وهل سيظل الفن تعبيرًا عن النفس البشرية، أم سيُعاد تعريفه بواسطة خوارزميات الذكاء الاصطناعي؟
في حين يُعارض العديد من الفنانين بشدة استخدام الذكاء الاصطناعي، انخرط البعض في هذا التوجه للمساعدة في إنتاج الموسيقى
رغم الاعتراضات الواسعة من عدد كبير من الفنانين على دخول الذكاء الاصطناعي إلى مجال الإبداع الفني، اختار آخرون استكشاف هذا المجال والاستفادة منه في عمليات الإنتاج الموسيقي. وأحد أبرز الأمثلة على هذا التوجه فرقة تُعرف باسم “ذا فيلفيت صن داون”، والتي باتت تُثير اهتمامًا واسعًا بسبب إنتاجها الموسيقي السريع والمدعوم بالذكاء الاصطناعي.
في أقل من شهر، أصدرت “ذا فيلفيت صن داون” ألبومين على “سبوتيفاي”، بعنوان “Floating On Echoes” و”Dust and Silence”، وسيصدر ألبوم ثالث خلال أسبوعين
أظهرت هذه الفرقة نشاطًا غير مسبوق، حيث أطلقت ألبومين كاملين خلال فترة تقل عن 30 يومًا على منصة “سبوتيفاي”. الألبومان حملا عنواني *Floating On Echoes* و*Dust and Silence*، ويُرتقب صدور ألبوم ثالث في غضون أسبوعين، ما يعكس وتيرة إنتاج غير معهودة في عالم الموسيقى التقليدية.
تتميز الأغاني بأجواء روك كلاسيكية مع تناغم موسيقيّ صاخب مع عزف الآلات الموسيقية ذات الصدى ولمسة من ضبط الصوت التلقائي
الهوية الموسيقية للفرقة تجمع بين عناصر الروك الكلاسيكي والصوتيات العصرية. تنسجم الآلات ذات الصدى العميق مع تأثيرات إلكترونية وضبط صوت تلقائي، لتنتج أجواء قد تبدو مألوفة لعشاق هذا النوع الموسيقي. ومع ذلك، فإن استماعًا متعمقًا يكشف بعض التكرار والجمود الذي يوحي بأن هذه الأعمال ليست من إنتاج بشري بالكامل.
إذا ظهرت إحدى هذه الأغاني في مزيج موسيقي، فقد لا تلاحظ أي شيء غير طبيعي، لكن إذا استمعت إلى واحدة تلو الأخرى، فإن الغموض الممل يكشف عن كونها من صنع الآلة
عند إدراج إحدى أغاني الفرقة ضمن قائمة تشغيل عشوائية، قد تمر مرور الكرام دون أن تُثير الريبة. لكن الاستماع المتتابع لأغانيها يكشف شيئًا من الرتابة والافتقار للعمق العاطفي، وهو ما يُعد مؤشرًا على تدخل الذكاء الاصطناعي في التأليف والإنتاج.
بدأ بعض المستمعين يشككون في وجود فرقة “ذا فيلفيت صن داون” خلال الأسبوع الماضي، حيث أشارت العديد من النقاشات على منصة “ريديت” و”إكس” إلى نقص المعلومات الموثوقة عنها
مع ازدياد شعبية الفرقة، بدأ عدد من مستخدمي الإنترنت بالتشكيك في وجودها الحقيقي. فقد لاحظوا نقصًا واضحًا في المعلومات المتعلقة بأعضائها أو نشاطاتها السابقة، ما دفع البعض إلى التحقيق في أصولها عبر منصات مثل “ريديت” و”إكس”، دون التوصل إلى بيانات مؤكدة.
يذكر الملف التعريفي أربعة أعضاء، لا يبدو أن أيًا منهم موجود خارج قوائم ألبومات “ذا فيلفيت صن داون” وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي
وفقًا للسيرة الذاتية على حساب “سبوتيفاي”، تتكون الفرقة من أربعة أعضاء، لكن لا توجد أي إشارات خارج حسابات الفرقة تدل على وجودهم الفعلي، سواء في مشاريع موسيقية سابقة أو نشاطات عامة، ما يعزز فرضية أن هذه الشخصيات مُختلقة أو مولّدة رقميًا.
أُضيفت أغاني الفرقة بشكل غامض إلى عدد كبير من قوائم التشغيل التي أنشأها المستخدمون، مما ساهم في زيادة قاعدة مستمعيها في غضون أسابيع قليلة
بشكل مفاجئ، بدأت أغاني الفرقة تظهر في قوائم تشغيل متعددة أنشأها مستخدمون على “سبوتيفاي”، مما أدى إلى ارتفاع سريع في عدد المستمعين. وبحلول الوقت الذي تم فيه اكتشاف استخدام الذكاء الاصطناعي، كانت الفرقة قد وصلت إلى حوالي 300 ألف مستمع شهري، وتجاوزت نصف مليون مستمع في أقل من أسبوع.
عندما أنشأت فرقة “ذا فيلفيت صن داون” حسابًا على “إنستغرام” في 27 يونيو، تبددت كل الشكوك – هؤلاء “الأشخاص” هم بلا شك ذكاء اصطناعي
في نهاية يونيو، ظهر أول حساب رسمي للفرقة على “إنستغرام”، وسرعان ما تبيّن أن الصور المنشورة تظهر وجوهًا مثالية ومُصممة بطريقة غير طبيعية. في أحد المنشورات، ادّعت الفرقة أنها تحتفل بنجاح الألبومات بتناول البرغر، لكن توزيع الطعام في الصورة بدا غير منطقي، ما أكد أن الصور مولّدة باستخدام الذكاء الاصطناعي.
كما يتمتع أعضاء الفرقة أنفسهم بمظهر ناعم ومتناسق بشكل غير واقعي، كما هو الحال في الصور المُولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي
الصور التي تظهر أعضاء الفرقة تتسم بمظهر مثالي يخلو من العيوب، وهو ما يعكس السمات النموذجية للصور التي تُنتجها أدوات توليد الصور بالذكاء الاصطناعي، مما يعزز فرضية أن “ذا فيلفيت صن داون” ليست سوى مشروع آلي بالكامل.
ليست فرقة “ذا فيلفيت صن داون” الوحيدة التي تُولّدها الذكاء الاصطناعي والتي غزت منصات البث
ليست هذه التجربة فريدة من نوعها؛ ففي برنامج “لاست ويك تونايت”، أشار المقدم جون أوليفر إلى فرقة أخرى تُدعى “ذا ديفل إنسايد”، التي أنتجت عشرة ألبومات باستخدام الذكاء الاصطناعي خلال العامين الماضيين، مما يُشير إلى وجود توجه متنامٍ نحو الفرق الافتراضية.
ومن المثير للاهتمام أن كلاً من “ذا فيلفيت صن داون” و”ذا ديفل إنسايد” يبدو أنهما يتضمّنان العديد من الأغاني التي تُشير إلى الغبار والرياح
لاحظ البعض أن هناك مواضيع متكررة في كلمات الأغاني لكلا الفرقتين، منها الغبار والرياح، ما قد يدل على نمط متكرر في النماذج المستخدمة، أو ربما يُشير إلى أن كلا المشروعين ناتج عن نفس الجهة المطوّرة أو الشركة التي تقف وراء برامج توليد الموسيقى.
تصنيف الذكاء الاصطناعي
حتى الآن، لا تفرض “سبوتيفاي” على الفنانين الكشف عن ما إذا كانت الأغنية مولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، ما يسمح لمثل هذه المشاريع بالظهور جنبًا إلى جنب مع الموسيقى البشرية دون تمييز. وعلى النقيض من ذلك، تتخذ منصة “ديزر” موقفًا أكثر حذرًا، حيث أضافت إلى صفحة الفرقة تحذيرًا بأن بعض الأغاني قد تكون من إنتاج آلي.
كما تُشير مجلة “NME” إلى أن السيرة الذاتية على “سبوتفياي” قد نسبت سابقًا وصفًا مُجمّلاً لموسيقى الفرقة إلى Billboard
أشارت مجلة “NME” إلى أن حساب “سبوتيفاي” الخاص بالفرقة كان يتضمن وصفًا نقل عن “Billboard”، وهو ما تبيّن لاحقًا أنه ليس دقيقًا، مما يطرح تساؤلات حول الشفافية والمصداقية في توصيف الموسيقى المنتجة آليًا.
حاليًا، يمتلئ حساب الفرقة على “إنستغرام” بتعليقات تُنتقد استخدام الذكاء الاصطناعي، ولكن قد يأتي يوم يصعب فيه تحديد ذلك
في الوقت الحالي، تتلقى الفرقة سيلاً من التعليقات الرافضة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الفن، لكن مع تطور التقنيات، قد يصبح من الصعب مستقبلاً التمييز بين الموسيقى البشرية وتلك التي تُنتجها الآلة.