هواوي

بعد سنوات من القيود الأميركية الصارمة، التي شملت حصارًا تقنيًا وتجاريًا خانقًا، استطاعت شركة “هواوي” الصينية أن تنهض من تحت الرماد، متحوّلة إلى أحد أبرز اللاعبين العالميين في مجال الذكاء الاصطناعي، بل ومنافسًا مباشرًا لعمالقة صناعة الرقائق الإلكترونية، وفي مقدمتهم شركة “إنفيديا” الأميركية. هذا التحول لم يأتِ بين ليلة وضحاها، بل كان ثمرة لجهود مضنية واستثمارات هائلة في البحث والتطوير، عكست إصرار الشركة – والدولة الصينية عمومًا – على تقليص الاعتماد على الخارج، خاصة في المجالات الحساسة والاستراتيجية مثل أشباه الموصلات وتقنيات الذكاء الاصطناعي.

البداية المتواضعة لهواوي، والتي تعود إلى أواخر الثمانينيات، كانت في شقة صغيرة بمدينة شنتشن الصينية، حيث كانت تعمل كموزع بسيط لمعدات الاتصالات. لم يكن يخطر ببال أحد حينها أن هذه الشركة الناشئة ستتحول لاحقًا إلى رمز من رموز القوة التكنولوجية في الصين، وتصبح اليوم محورًا رئيسيًا في سباق عالمي محموم على قيادة الثورة الصناعية الجديدة التي يمثلها الذكاء الاصطناعي.
تزايد الضغوط الأميركية، والتي بدأت تتكثف منذ عام 2019، كانت تهدف إلى إبطاء تقدم هواوي من خلال حرمانها من التقنيات الأميركية مثل شرائح “كوالكوم” وبرمجيات “غوغل”، إلا أن النتيجة كانت عكسية إلى حدّ ما. فقد دفعت تلك الإجراءات الشركة إلى الاعتماد على قدراتها الذاتية وتعزيز استقلاليتها التقنية. في هذا السياق، أسست هواوي منظومة متكاملة من المكونات التقنية، بدءًا من رقائق المعالجة وحتى البنية التحتية للحوسبة السحابية، مما سمح لها بإطلاق منتجات منافسة في الأسواق العالمية، بل والتفوق في بعض القطاعات مثل شبكات الجيل الخامس.
في السنوات الأخيرة، بدأت هواوي توجّه جهودها بقوة نحو الذكاء الاصطناعي، وتحديدًا في مجال تصنيع معالجات متقدمة مخصصة للمهام الذكية، مثل رقائق “Ascend” التي أصبحت تنافس رقائق “NVIDIA” في بعض التطبيقات. هذا التطور جاء مدعومًا بسياسات حكومية صينية شجعت الشركات المحلية على الاستثمار في هذا المجال، بهدف تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي والابتعاد عن التبعية للتكنولوجيا الغربية.
اليوم، تُقدَّم هواوي في الخطاب الإعلامي الصيني كنموذج للصمود والابتكار، بل كبطل قومي يقود البلاد نحو المستقبل الرقمي، ويعكس طموحات الصين في أن تكون قوة تكنولوجية عظمى لا تقل شأنًا عن الولايات المتحدة أو أوروبا. من خلال دخولها معترك الذكاء الاصطناعي، لا تسعى هواوي فقط إلى تعزيز مكانتها التجارية، بل إلى المشاركة الفاعلة في رسم ملامح النظام التقني العالمي الجديد.
وبذلك، تحولت قصة هواوي من حكاية نجاح تقليدية لشركة ناشئة إلى ملحمة قومية تجسد إرادة أمة بأكملها في كسر الحواجز وقيادة المستقبل.
من الضغوط إلى التفوق
تحت تأثير القيود الأميركية المتزايدة، اضطرت “هواوي” إلى إعادة رسم خارطة أعمالها والتركيز على مجالات واعدة، أبرزها الذكاء الاصطناعي. فقد وسّعت الشركة أنشطتها لتشمل الرقائق المتقدمة، مراكز البيانات، نماذج اللغة الضخمة، والتطبيقات الصناعية الدقيقة، وفقًا لتقرير نشرته شبكة “سي إن بي سي” واطلعت عليه “العربية Business”.
تقارير جديدة تكشف تأخر هواوي في سباق الرقائق
ورغم ما تواجهه من تحديات، يرى بول تريولو، نائب الرئيس الأول في شركة DGA Albright Stonebridge، أن ما يميز “هواوي” هو قدرتها الفريدة على دخول مجالات تقنية معقدة ومتعددة، بكفاءة عالية، رغم العوائق الكبيرة التي تعترض هذا النوع من الصناعات.
ويشير تريولو إلى أن العقوبات الأميركية دفعت “هواوي” إلى تعزيز علاقاتها مع الدولة الصينية، رغم أن مؤسسها، رين تشنغ فاي، كان حريصًا دائمًا على إبقاء الشركة بعيدًا عن السياسة.
حين تصبح العقوبات محفّزًا
منذ أن أدرجت الولايات المتحدة “هواوي” على قائمتها السوداء عام 2019، واجهت الشركة سلسلة من القيود التي منعتها من التعامل مع شركات كبرى مثل “غوغل” و”TSMC”، ما تسبب في تراجع كبير بمبيعات هواتفها الذكية وخسائر ملموسة في قطاع المستهلكين.
لكن بدلاً من الاستسلام، حولت “هواوي” هذه الضغوط إلى فرصة للابتكار، حيث طورت شريحة “Ascend 910” المخصصة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لتفتتح بذلك مرحلة جديدة في مسيرتها التقنية.
وقد أثارت عودتها القوية إلى المشهد التقني دهشة الأوساط الأميركية، خاصة بعد طرحها هاتفًا يعمل بشريحة “5G” متقدمة مصنّعة داخل الصين، دون الاعتماد على الشريك السابق “TSMC”، ويُعتقد الآن أنها تتعاون مع شركة “SMIC” المحلية، رغم إدراج الأخيرة أيضًا في القائمة السوداء الأميركية.
كسر هيمنة “إنفيديا”
مع استمرار القيود الأميركية على شرائح “إنفيديا”، سارعت “هواوي” إلى تطوير بدائل محلية منافسة، أبرزها شريحة “Ascend 910B”، وتخطط لإطلاق الجيل التالي منها، “910C”، على نطاق واسع.
وبواسطة نظام “CloudMatrix 384″، الذي يربط 384 شريحة ضمن وحدة متكاملة، تؤكد “هواوي” أنها قادرة على تقديم أداء مماثل، بل متفوق في بعض الحالات، على أنظمة “إنفيديا” الحديثة مثل “GB200 NVL72”.
ولم تقتصر جهود “هواوي” على تطوير العتاد فقط، بل قامت ببناء نظام برمجي خاص بها يحمل اسم “CANN”، ليكون بديلًا لنظام “CUDA” الذي يعتمد عليه مطورو “إنفيديا”، مما يوفر بيئة برمجية متكاملة لتدريب النماذج الذكية.
نموذج صيني للذكاء الاصطناعي
تراهن “هواوي” على نموذج “Pangu” للذكاء الاصطناعي التوليدي، والذي صُمم خصيصًا للتطبيقات الصناعية والحكومية، خلافًا لنماذج الذكاء الاصطناعي العامة مثل “GPT-4” من OpenAI.
وقد طبّقت الشركة هذا النموذج في أكثر من 20 قطاعًا، بما في ذلك المناجم، والرعاية الصحية، والنقل، والجهات التنظيمية.
وفي مايو الماضي، طبقت “هواوي” هذا التحول التقني عمليًا من خلال تشغيل أكثر من 100 شاحنة كهربائية ذاتية القيادة داخل مناجم بالصين، باستخدام شبكات الجيل الخامس وتقنيات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.
ولا تقتصر طموحات “هواوي” على السوق المحلي، إذ أعلنت عن إتاحة نماذج “Pangu” كمصدر مفتوح، ضمن خطة توسعية تهدف إلى ترسيخ حضورها في دول مبادرة “الحزام والطريق”، خاصة في آسيا الوسطى وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
ويقدّر محللون أن “هواوي” قد تنجح خلال العقد القادم في تكرار تجربتها في قطاع الاتصالات، من خلال ترسيخ موطئ قدم قوي في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي عالميًا.