OpenAI

في خضم السباق المتسارع والمحموم في وادي السيليكون نحو الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي، أصبحت الرواتب المرتفعة أداة رئيسية تستخدمها شركات التكنولوجيا الكبرى لاجتذاب أفضل العقول في هذا القطاع التنافسي. فمن أجل البقاء في موقع الريادة، تسعى الشركات مثل “Google DeepMind”، و”Anthropic”، و”Meta” وغيرها إلى تقديم حوافز مالية ضخمة ومزايا فريدة، كوسيلة لاستقطاب الباحثين والمهندسين القادرين على تطوير النماذج الأكثر تقدماً وابتكاراً.

لكن في خضم هذا التدافع على المواهب داخل القطاع نفسه، تنتهج “OpenAI” نهجًا مختلفًا ومميزًا من خلال برنامجها “برنامج الإقامة البحثية” (Researcher Residency). فبدلاً من التنافس المباشر مع بقية الشركات على نفس مجموعة المهندسين والباحثين الذين تخرجوا من أكبر الجامعات التقنية أو سبق لهم العمل في شركات الذكاء الاصطناعي، تسعى “OpenAI” إلى توسيع نطاق البحث عن المواهب من خلال استهداف أفراد من خارج القطاع التقليدي للذكاء الاصطناعي.
يركّز هذا البرنامج على الأشخاص الذين يمتلكون خلفيات علمية قوية في مجالات مثل الفيزياء، والرياضيات، والاقتصاد، وحتى الفنون واللغويات، لكنهّم لم يعملوا من قبل مباشرة في الذكاء الاصطناعي. وبدلاً من افتراض أن الخبرة المباشرة في المجال شرط أساسي للنجاح، يراهن البرنامج على الإمكانات الفكرية، والقدرة على التعلم، والاستعداد للتعمق في قضايا الذكاء الاصطناعي من زوايا غير تقليدية.
يقدم برنامج الإقامة البحثية تدريباً مكثفاً وتوجيهاً شخصياً من باحثين متمرسين داخل “OpenAI”، مع إتاحة الفرصة للمشاركين للعمل على مشاريع حقيقية تسهم في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة. والهدف هو إعداد مجموعة جديدة من الباحثين القادرين على المساهمة بفعالية في تطوير الذكاء الاصطناعي، مع جلب وجهات نظر متنوعة تغني العملية البحثية وتساعد على مواجهة التحديات الأخلاقية والفنية المعقدة التي تصاحب تطور هذا المجال.
هذا النهج الفريد يعكس فلسفة “OpenAI” في أن الابتكار لا يقتصر على من يمتلك الخبرة التقنية فحسب، بل قد يأتي أيضاً من أولئك القادرين على التفكير النقدي والإبداعي، حتى وإن كانت خلفياتهم غير تقليدية في هذا المجال. كما يُسهم البرنامج في تقليص الحواجز التي تحول دون دخول المهتمين من خلفيات متنوعة إلى مجال الذكاء الاصطناعي، مما يعزز الشمولية ويوسّع نطاق الإبداع داخل القطاع.
في ظل اشتداد المنافسة وتزايد الطلب على الكفاءات المتخصصة، يمثل هذا البرنامج محاولة ذكية وغير مألوفة لجذب المواهب من خارج الدائرة المعتادة، مما يضع “OpenAI” في موقع فريد داخل ساحة التنافس المتقدمة، حيث لا تقتصر المعركة على الرواتب فقط، بل تمتد إلى إعادة تعريف مصادر الابتكار نفسها.
يُتيح هذا البرنامج
يُوفر هذا البرنامج، الذي يمتد لستة أشهر بدوام كامل وبأجر مجزٍ، فرصة مميزة للباحثين الطموحين في الذكاء الاصطناعي، خصوصًا أولئك القادمين من تخصصات مجاورة مثل الفيزياء أو علم الأعصاب، للدخول إلى هذا المجال المتقدم. وبدلاً من التركيز على الباحثين الذين يملكون بالفعل خبرة عميقة في أبحاث الذكاء الاصطناعي، يسعى البرنامج إلى استقطاب مواهب جديدة من خلفيات تقنية قوية.
وبحسب جاكي هيهير، مديرة برنامج الإقامة البحثية في “OpenAI”، فإن المشاركين في البرنامج لا ينتمون إلى الدوائر التقليدية لتعلم الآلة، فهم ليسوا طلاب دكتوراه في المجال، ولا يعملون في مختبرات ذكاء اصطناعي حالية، وفقًا لما نقلته مجلة فورتشن
وأكدت هيهير في جلسة تعريفية أن المرشحين المختارين هم “أشخاص يتمتعون بشغف حقيقي تجاه الذكاء الاصطناعي”.
ما الفائدة التي تجنيها “OpenAI”؟
تبدو نية “OpenAI” واضحة من هذا البرنامج، إذ تسعى لاستكشاف وتطوير مواهب واعدة بتكلفة تعتبر منخفضة نسبيًا مقارنة بالمنافسة الشديدة في السوق.
فعلى الرغم من أن راتب المشاركين، الذي يبلغ 210 آلاف دولار سنويًا (نحو 105 آلاف دولار خلال فترة البرنامج)، يضعهم ضمن أعلى 5% من أصحاب الدخل في الولايات المتحدة، إلا أنه يُعد أقل تكلفة من المكافآت الضخمة التي تقدمها شركات أخرى لجذب المواهب.
البرنامج يمنح المشاركين موطئ قدم داخل مجال الذكاء الاصطناعي، وهو ما يتماشى مع التوجه الاستراتيجي للشركة في تنمية الكفاءات التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا برؤية “OpenAI”.
ويُعد هذا التوجه جزءًا أصيلًا من نهج الرئيس التنفيذي سام ألتمان في الحفاظ على الموظفين وتحفيز الابتكار، حيث وصف أحد موظفي الشركة السابقين ثقافة “OpenAI” بأنها “مهووسة بتحقيق هدف تطوير ذكاء عام اصطناعي”.
تفاصيل البرنامج
بعيدًا عن دوافعهم، فإن المشاركين في برنامج الإقامة يحصلون على تعويضات مالية مجزية، تشمل راتبًا سنويًا يبلغ 210 آلاف دولار، إلى جانب تغطية نفقات الانتقال إلى سان فرانسيسكو.
وبخلاف برامج التدريب المعتادة، يُعامل المشاركون في هذا البرنامج كموظفين دائمين يتمتعون بكافة الامتيازات الوظيفية. ومن يُظهر أداءً قويًا، يتلقى عرضًا للتوظيف بدوام كامل. حتى الآن، قبل جميع المقيمين الذين حصلوا على مثل هذه العروض.
ويستقبل البرنامج سنويًا نحو 30 مشاركًا.
اللافت أن المؤهلات المطلوبة غير تقليدية، فلا يُشترط امتلاك شهادات أكاديمية أو خبرات سابقة محددة، بل تُركز الشركة على امتلاك المتقدمين لمهارات تقنية عالية، مماثلة لتلك التي تتطلبها الوظائف الدائمة في “OpenAI”، لا سيما في مجالات الرياضيات والبرمجة.
وقالت هيهير: “لست بحاجة إلى شهادة في الرياضيات المتقدمة، لكن من الضروري أن تكون مرتاحًا تمامًا في التعامل مع مفاهيمها”.
نهج “ميتا”
في المقابل، تسلك شركة “ميتا” نهجًا مختلفًا كليًا، يتمثل في السعي الحثيث لضم أفضل الكفاءات في الذكاء الاصطناعي. وذكرت تقارير أن مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لميتا، وضع بنفسه قائمة تضم أبرز موظفي “OpenAI” وقدم لهم عروضًا ضخمة تجاوزت 100 مليون دولار كمكافآت توقيع.
وفي بعض الحالات، وصلت قيمة الحزم المالية التي تقدمها “ميتا” إلى 300 مليون دولار على مدى أربع سنوات للباحثين الأبرز.
هذا الاتجاه أثار ما وصفه البعض بـ”صيف الخوف من تفويت المكافآت”، حيث بات خبراء الذكاء الاصطناعي يوازنون بين ولائهم لشركاتهم الحالية والرغبة في استغلال الفرص المالية الاستثنائية.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية جزئيًا، إذ تمكنت “ميتا” من ضم عدد من موظفي “OpenAI” إلى فريق الذكاء الاصطناعي المتقدم لديها. وعلق مارك تشين، كبير مسؤولي الأبحاث في “OpenAI”، على هذه التحركات قائلاً: “الأمر يشبه اقتحام أحدهم منزلنا وسرقة شيء ما”.
وفي المقابل، وصف سام ألتمان طريقة “ميتا” في التوظيف بأنها “مجنونة”، محذرًا من أنها قد تؤدي إلى أزمات ثقافية عميقة. وقال في مذكرة داخلية سُربت مؤخرًا: “ما تقوم به ميتا قد يخلق بيئة ثقافية سامة يصعب التعافي منها”.
استراتيجية أكثر استدامة؟
في نهاية المطاف، قد يُثبت توجه “OpenAI” في بناء المواهب من البداية أنه أكثر استدامة من الدخول في سباق المحفزات المالية، خاصة في ظل النقص الحاد في الكفاءات المتقدمة في هذا المجال.
فالتقديرات تشير إلى وجود ما لا يزيد عن ألفي شخص حول العالم يمتلكون المهارات اللازمة لدفع حدود أبحاث النماذج اللغوية والذكاء الاصطناعي المتطور.
ورغم أنه من غير المؤكد ما إذا كانت المواهب التي تُنشئها “OpenAI” ستبقى وفية لها على المدى الطويل، إلا أن ألتمان يؤمن بأن أصحاب الرسالة سيتفوقون في النهاية على الباحثين عن المال فقط.